fbpx
مختارات

زيارة ترامب للسعودية وانعكاساتها المستقبلية

 

د. وليد عبد الحي، جولة دونالد ترامب في المنطقة العربية وانعكاساتها المستقبلية، منشورات الزيتونة، 25 مايو 2017

أولاً: دوافع جولة ترامب:

تمثل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأسبوع الأخير من أيار/ مايو 2017 مؤشراً أولياً على الخطوط العريضة لسياسته الشرق أوسطية، والتي يمكن تحديدها في ثلاثة اتجاهات كبرى هي:

1. أولوية البعد التجاري المالي على البعد السياسي في العلاقات مع الدول العربية.

2. أولوية ربط عدم الاستقرار الإقليمي بالدور الإيراني، وليس بانعكاسات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.

3. أولوية التطبيع العربي مع ”إسرائيل“ على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية.

وقبل الدخول في تحليل هذه الأولويات ودلالاتها المستقبلية، لا بدّ من الإشارة إلى أن ترامب يسعى لتحقيق إنجازات خارجية في أقاليم رخوة —كالشرق الأوسط— ليكبح تداعيات مآزقه الداخلية المتمثلة في هواجس تداعيات مزاعم حول صلة الروس بنجاحه في الانتخابات، والتي يبدو أنها قضية تأبى أن تتوارى؛ ثم محاولة تخفيف صورته المهزوزة لدى الرأي العام الأمريكي والتي رسمتها دوائر الإعلام الأمريكية والغربية؛ إلى جانب اتهامه ”بعدم الأهلية“ للمنصب من قِبَل نخبة مهمة من علماء النفس الأمريكيين (35 عالماً) والذين وقّعوا على بيان بذلك؛ ناهيك عن دعوات أساتذة قانون دستوري في أبرز الجامعات الأمريكية لمحاكمته على مخالفات دستورية؛ ومواجهته الداخلية مع دوائر الهجرة والمحاكم الاتحادية، والفارق الكبير بين خطاباته في حملاته الانتخابية وخطاباته بعد الانتخاب، في موضوعات عديدة داخلية وخارجية واتهامه بالكذب بنسبة تصل لـ 76% من أقواله.

بناء على هذا الوضع الداخلي لترامب اختار الشرق الأوسط، ليحاول تحقيق إنجازات تعزز مركزه الداخلي، ويسترضي جماعات ضغط مؤثرة في الجسد السياسي الأمريكي، مثل جماعة المُركَّب العسكري الصناعي Military Industrial Complex، واللوبي اليهودي الصهيوني، وبعض الشرائح المسيحية المتطرفة، لا سيّما من المحافظين الجدد وطبقة أصحاب رؤوس الأموال.

ثانياً: المرحلة الأولى من الجولة:

بدأت رحلة ترامب بالمملكة العربية السعودية، التي نظمت مؤتمراً إسلامياً عربياً أمريكياً في الرياض، تحدث فيه ترامب وغيره من القادة العرب، وانتهى المؤتمر ببيان يمكن التوقف فيه عند النقاط التالية:

1. غياب أيّ إشارة في البيان —نصاً أو تأويلاً— وبشكل تام للصراع العربي الإسرائيلي أو القضية الفلسطينية أو الاحتلال للأراضي العربية، وبالرغم من إمكانية التعلل بالإشارات العامة وغير الواضحة لتسوية الصراعات في المنطقة، فإن تواري الموضوع الفلسطيني بشكل تام وراء دخان الموضوع الإيراني، يشير بشكل قاطع لمفهوم التحالف والشراكة الاستراتيجية التي نصّ عليهما البيان في فقرات لاحقة.

2.لما كانت الولايات المتحدة هي الطرف المركزي في المؤتمر، فإن خطاب ترامب يُعدُّ جزءاً من وثائق المؤتمر، وقد أشار ترامب في خطابه إلى أن حركة حماس (وحزب الله ومعهما بشكل ضمني حركة الجهاد الإسلامي) تقع كلها ضمن المنظمات الإرهابية التي تكررت الإشارة لها في البيان لمرات عديدة (وهو ما كُنتُ قد تنبأت به في مقال منشور في 17/10/2015، أي قبل أكثر من سنة ونصف، وقلت بأن ”إسرائيل“ وأمريكا تسعى لدمج حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في إطار مكافحة الإرهاب)… . وهنا لا بدّ من ربط ذلك بجوانب أخرى وردت في البيان وهي:

‌أ. يقول البيان إن تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي سيبدأ الانضمام إليه سنة 2018. وعلينا أن نلاحظ أن اسم التحالف هو التحالف الشرق أوسطي الاستراتيجي وليس التحالف العربي الإسلامي الأمريكي. فالاسم الأول يتيح لـ”إسرائيل“ التقدم للعضوية خلافاً للثاني، الذي أشير له بتعبير ”الشراكة بين الدول العربية والإسلامية والولايات المتحدة“. فماذا لو تقدمت ”إسرائيل“ بطلب العضوية، إذ إن البيان يشير إلى إطارين هما ”تحالف شرق أوسطي استراتيجي“ وهو ما يشمل ”إسرائيل“ وإلى ”شراكة عربية إسلامية أمريكية“، والتعبير الأول أوسع التزاماً من الثاني من حيث العضوية والمهام الموكلة له؛ بل إن درجة الالتزام بـ”التحالف” أكثر من درجة الالتزام بـ”الشراكة”.

‌ب. ينص البيان على فتح باب التوقيع على اتفاقية تعاون في مجال مكافحة ”تمويل الإرهاب“، ويتم ذلك —حسب البيان— من خلال تأسيس مركز لاستهداف تمويل الإرهاب. ولما كان الطرف المركزي في الاتفاق هو الولايات المتحدة، فإن ذلك يعني أن أيّ مساعدات عربية لمنظمات فلسطينية ستقع ضمن تمويل الإرهاب. وعليه فإن على حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي تحديداً أن تستعدا لاحتمالات أبرزها التضييق المالي عليهما —أو تجفيف مصادرهما المالية بلغة البيان— سواء من الأفراد في الخليج أم من الدول الخليجية؛ مع ملاحظة أن المراقبة ستأخذ طابعاً مؤسسياً، حيث جاء في نصّ البيان ”تشكيل فرق عمل ولجان وزارية ورفع تقارير دورية“ عن مدى تقدم هذه الجوانب. وهو ما يعني المتابعة لكل خطوة عربية أو إسلامية تجاه حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة وأشخاصها بصفتهم تنظيمات ”إرهابية“ وفق التفسير الأمريكي.

‌ج. يدعو البيان إلى ”التصدي ومنع الهجمات الإرهابية“. وطبقاً لسياق المؤتمر وتوصيفاته فإن هذا التعبير يمتد بدلالاته إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، طالما أن ترامب وضع التنظيمات الفلسطينية المسلحة ضمن قوائم الإرهاب، وعليه فإن دول البيان ملتزمة بمعاقبة حماس، أو الجهاد الإسلامي، أو غيرهما في حال القيام بأيّ عمليات ضدّ الاحتلال.

‌د. نصّ البيان على تأسيس مركز عالمي (وتعبير ”عالمي“ وليس عربي أو إسلامي يشمل ”إسرائيل“ وغيرها) لمواجهة الفكر المتطرف. فهل سيمتد دور هذا المركز إلى الفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى؟ إن مثل هذا المركز ينطوي على احتمال للضغط على العربسات والنايل سات لإغلاق المحطات الفضائية التابعة لحماس والجهاد الإسلامي (كما جرى مع قناة المنار). بل قد يمنع توزيع الصحف والمجلات أو مراكز الأبحاث التي تساند مواقف هذه التنظيمات، وقد يمتد الأمر إلى اعتبار أي مستوى من الانتفاضة في الأراضي المحتلة على أنه ”تحريض وتعزيز لثقافة الكراهية“.

ولا شكّ بأن مثل هذا البيان سيلقى رضاً كبيراً لدى اللوبي اليهودي، الذي يشعر ترامب بأنه في أمسّ الحاجة له في مواجهاته الداخلية مع القوى التي تمت الإشارة إليها.

ثالثاً: البعد التجاري المالي في المرحلة الأولى للجولة:

لقد نجح ترامب في عقد صفقة لبيع السلاح الأمريكي للسعودية، وفي جلب استثمارات سعودية للبنية التحتية الأمريكية، وهو ما جعل قيمة الصفقة تصل إلى نحو 400 مليار دولار. وهي صفقة ستُبهج جماعة المُركَّب العسكري الصناعي الأمريكي. ويكفي أن نعلم أن 15 من كبار المسؤولين في البنتاغون ممن عيّنهم ترامب هم من ذوي العلاقات المباشرة مع المركّب العسكري الصناعي الأمريكي (مثل جارد كوشنر، وبنيامين كاسيدي، وجوناثان هوفمان، وجيم ماتيس، وجون كيلي، وبات شانهان، وهيثر ويلسون، وكيث كيلوج، وتشاد وولف، ولورا رايس، ومايكل كاتنزارو، وجوستون ميكولي…إلخ). وكانت أولى مؤشرات العلاقات بين ترامب والمُركَّب العسكري الصناعي هو زيادة ترامب للإنفاق العسكري بنحو 54 مليار دولار.

إن الاتفاق السعودي الأمريكي الذي ينص على شراء أسلحة أمريكية بمبلغ 350 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة، حيث تبدأ بصفقة فورية قيمتها 110 مليار دولار، يعني أن المركّب العسكري الصناعي (الذي كشف عنه منذ أكثر من نصف قرن الكاتب الأمريكي رايت ميلز وحذر الرئيس الأمريكي الأسبق آيزنهاور في ستينيات القرن الماضي من خطورته) سيدفع نحو تأجيج النزاعات الدولية (دون انخراط مباشر فيها، وهو ما اتضح في خطاب ترامب في مؤتمر الرياض من أن على دول المنطقة أن تحمي نفسها بنفسها) لإفساح المجال لمزيد من مبيعات السلاح للمتصارعين. وهو أمر يتضح من حجم المبيعات العسكرية الأمريكية على المستوى العالمي بشكل عام والشرق أوسطي بشكل خاص، وهو ما يتضح في أن أغلب الحروب الإقليمية تدور بسلاح أمريكي مع الطرفين أو مع أحدهما.

يضاف لصفقات الأسلحة أنباء عن استعداد سعودي لاستثمار نحو 40 مليار دولار في البنية التحتية الأمريكية، ناهيك عن الاستثمارات الموجودة أصلاً في الأسواق الأمريكية.

لكن من الضروري التذكير بأن الرئيس السابق أوباما سبق له أن عقد اتفاقاً مع السعودية لمبيعات عسكرية بنحو 115 مليار دولار، لكن التنفيذ تعرض للعرقلة لخلافات حول السياسات السعودية الداخلية والخارجية.

من المؤكد أن السعودية تسعى لتضييق المجال أمام ”ما تراه خيارات استراتيجية إيرانية“ في المنطقة، كما أن طموحاً سعودياً بالتحول لدولة محورية في الشرق الأوسط قد يتعزز بمثل هذه الصفقات العسكرية، لكن نود التذكير بأن الاتحاد السوفييتي كان ثاني قوة عسكرية في العالم، غير أن البنية الداخلية كانت هي الحاكمة لمصيره، كما أن شاه إيران كان أحد أعمدة المنطقة لكن الوضع الداخلي حسم الأمر معه بشكل واضح. ومن هنا فإن السياسة السعودية ستواجه عقبات عدة في طموح تسعى له دول أخرى:

1. كيف سيتم التوفيق بين ضغوط أمريكية لمزيد من الإنفاق العسكري، وبين تراجع الدخل السعودي من مبيعات البترول التي تشكل المورد المركزي للاقتصاد السعودي؟

2. كيف ستوفق السعودية بين ”طموح إقليمي يتوارى وراء صفقات سلاح“ وبين حزام فقر اقتصادي إقليمي يحيط بها في كل من مصر واليمن والأردن والعراق، وقد يُلقي بظلاله عليها؟

3. هل ستستفيد السعودية من هذه الصفقة في عرقلة التقدم في مسار تطبيق قانون جاستا الذي أقره الكونجرس الأمريكي؟

من جهة أخرى، من الواضح أن السعودية تحاول استكمال مقومات الطموح الإقليمي من خلال بعض الخطوات الإجرائية مع الدول الكبرى الأخرى:

1. التوافق مع الروس على الاستمرار في سياسات الانتاج النفطي، لضمان استقرار الأسعار النفطية ومنع تدهورها.

2. استمرار تصدرها لقائمة موردي النفط ومستوردي السلع مع الاقتصاد الصيني.

3. من الواضح أن توجهات الرئيس الفرنسي ماكرون ستجعل الحركة الديبلوماسية السعودية أكثر ”براحاً“.

فهل ستكتمل هذه التوجهات الخليجية بشكل عام بنوع من الضغوط الناعمة على السلطة الفلسطينية كمقدمة لتعديل المبادرة العربية، لا سيّما في موضوع اللاجئين والحدود، والطبيعة القانونية لأي كيان سياسي فلسطيني مقترح، ناهيك عن عملية التطبيع العربي مع ”إسرائيل“؟ وهذا أمر يجب التعامل معه بجدية.

رابعاً: البعد الغائب في المرحلة الثانية:

تمثلت المرحلة الثانية في انتقال ترامب مباشرة من ”السعودية لإسرائيل“ وزيارته لحائط البراق، وتأكيده في خطاباته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على العلاقة الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، والتزامه بأمن ”إسرائيل“، ثم لقائه برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

ويمكن الإشارة لعدد من النقاط التي تستحق التأمل في هذه المرحلة من الجولة:

1. خلت كل تصريحات ترامب من أي التزام محدد بخصوص الإطار الذي ستتم فيه التسوية المأمولة من طرفه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهو ملتزم بـ”السلام“ دون تحديد لإطاره الدولي (قرارات الأمم المتحدة، أو قرارات اللجنة الرباعية، أو المبادرة العربية)، أو إطاره الأمريكي المعلن من الإدارات السابقة (قيام دولة فلسطينية منذ قبول الرئيس بوش بها).

2. خلافاً للموقف الأمريكي المعلن حول الاستيطان والاحتلال، فإن ترامب تجنب الإشارة لأي موضوع من موضوعات القضية الفلسطينية سوى الدعوة للسلام وبلغة إنشائية تغطي على الرغبة في التملص من أي التزام أمريكي سابق.

3. يلاحظ أن موضوع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس بقي في الظل، وعلى الرغم من بالونات الاختبار التي أطلقها الإسرائيليون قبيل وصول ترامب، إلا أن الموضوع بقي في نطاق ”سيناريو المراوغة“ الذي أشرنا له في تقدير استراتيجي سابق صادر عن مركز الزيتونة.

خامساً: التداعيات المستقبلية:

مع الإقرار بأن المؤسسات السياسية في النظام السياسي الأمريكي أقوى من الفرد، إلا أن دور الفرد يبقى له وزنه في سياق تفاعلات المؤسسات مع البيئة المحلية والإقليمية والدولية. وعليه لا بدّ من التوقف عند شخصية ترامب لوضعها في الاعتبار، عند محاولة فهم سياسته وتداعياتها المستقبلية وكيفية التعامل معه:

1. شخصية ترامب:

ما يلفت النظر أن الرئيس الحالي ترامب حظي بقدر غير معتاد من الحوارات حول ”بنيته النفسية“ أو السيكولوجية؛ وهو أمر لم تعرفه الرئاسات السابقة بهذه الحدة والتوسع في المناقشة؛ بل وحملت عشرات الصحف الأمريكية وبعض المجلات المتخصصة حوارات حول هذا الموضوع وبإسهاب يشير لقدر من القلق. وقد كان أغلبها من أطراف ”أكاديمية“ متخصصة، فهناك البيان الذي وقّع عليه 35 من الأطباء النفسيين الأمريكيين ونشرت نيويورك تايمز، والأتلنتيك، ونيويورك ديلي نيوز… وغيرها مقتطفات من البيان.

وأهم ما ورد في بيان الأطباء النفسيين هو ”أن ترامب غير مؤهل عقلياً لوظيفة قائد عام“. ويرى البروفيسور جون غارتنر من جامعة جون هوبكنز أن ترامب يعاني من ”نرجسية مرضية“، ولديه خلل عقلي لا يؤهله لمزاولة الرئاسة”.

ويتفق الجميع على ”نرجسية“ ترامب، لكن الخلاف بينهم على حِدَّة هذه النرجسية وكم مؤشر من مؤشراتها متوفر في شخصيته؟! فالتيار الأكبر يرى أن لديه ثماني خصائص من خصائص النرجسية المرضية (من بين تسع خصائص للنرجسية المرضية)، بينما يرى آخرون أن ترامب يعاني من أربع منها فقط. وتتمثل خصائص النرجسية المرضية طبقاً لهذه المساجلات في أن النرجسي:

‌أ. ينظر لإنجازاته العادية بشكل فيه قدر كبير من المبالغة بأهميتها.

ب. لديه وَهْم المثالية.

ج. يظن أن الناس العاديين لا يستطيعون فهمه، بل يحتاج لأشخاص غير عاديين لفهمه.

د. يستمتع بالإعجاب المفرط من قبل الآخرين به.

ه. يرى نفسه دائماً على حق.

و.يستغل علاقاته بالآخرين بشكل جشع.

ز. لا تعنيه مشاعر الآخرين.

ح. لديه وهم بأن الآخرين يحسدونه على ما هو عليه، وتأكلهم مشاعر الغيرة منه.

‌ط. متقلب، ويبرر مواقفه بشكل متعجرف.

إن أغلب ما وجده الباحث من دراسات أمريكية لشخصية ترامب منذ طفولته ومراحل تطوره، وصولاً لعالم المال والأعمال وعلاقاته الفردية وميوله العاطفية وغيرها من الموضوعات، التي يُعنى بها علم النفس السياسي، يشير إلى ما يلي:

أ‌. افتقاده للشعور بالأمن: ويعيد عدد من الباحثين ذلك في شخصية ترامب إلى ثلاثة عوامل:

1. مرحلة التحاقه بالأكاديمية العسكرية، والتي غرزت في نفسه إحساساً بأن الآخر هو ”العدو“، فدائماً يتدرب على كيفية مواجهة طرف آخر، وهو ما جعل الشعور بالقلق من الآخر يغوص في أعماقه، ويتوارى وراء دافع آخر لكنه يعززه.

2. انغماسه في عالم المال والأعمال، جعله يشعر بأن اليد الخفية التي يعرفها الاقتصاديون تتسلل بين لحظة وأخرى، وتؤدي في كثير من الأحيان إلى انهيار إمبراطوريات اقتصادية وشركات وبنوك عملاقة، وقد ذاق ترامب بعضاً منها.

3. طفولته تشير إلى أن مستوى المديح الذي كان ينتظره من الوالدين لم يرْقَ لنزعات الطفل. فبالرغم من الثراء والحياة الهادئة التي عاشها، لكنه لم ينل المديح الذي توقعه، مما جعله يطوي بداخله مشاعر القلق لمعرفة لماذا؟

ب. الكذب: تشير دراسة لتصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية إلى أن التحقيق فيما كان يقوله يقود إلى النتائج التالية:

وهو ما يعني أن 76% من تصريحاته كانت أقرب للكذب، مقارنة بـ 29% لتصريحات هيلاري كلينتون.

ج. نرجسي بشكل كبير (كما سبق): يشير تحليل لكتابات ترامب والمقابلات الصحفية إلى أن لديه نرجسية عالية، تظهر في تكرار اسمه في مواضع كثيرة، وإحساسه بأن ما يستطيعه يعجز عنه الآخرون، ويطرب للمديح (وهو ما يتضح في كراهيته للإعلام لأنه لم يمدحه). ونظرته للآخرين توحي بقدر قليل من التعاطف الوجداني، بدليل أن لديه نزوعاً قوياً بل وجامحاً لتشويه صورة خصمه.

د. تفاوضه: تدل استنتاجات الباحثين الذين اهتموا بمن تفاوض معه في دنيا المال والأعمال بأنه:

1. يوظف كل أدوات القوة لديه من بداية التفاوض وبشكل شرس.

2. يُغرق الطرف الآخر في أدق التفاصيل مهما بدت بسيطة أو تافهة.

3. يميل لوضع الطرف المقابل في ظروف تفاوضية غير مريحة من خلال تشويه السمعة كما أشرنا سابقاً، وإيجاد بيئة تفاوضية محبطة للآخر تجعله يقبل بشروط ترامب.

4. لا يعرف تأنيب الضمير على ما يقع للآخرين في نطاق العمل التفاوضي.

5. إذا شعر أن عناده قد يقود للخسارة، فإنه يتراجع ولا يرى في ذلك ضيراً.

هـ. ماذا يعني كل ذلك للمفاوض العربي:

1. على المفاوض العربي أن يضع في اعتباره أن ترامب لن يتورع عن الكذب عليه، وهذا يعني أن على المفاوض العربي أن لا يأخذ ما يقوله ترامب على محمل الجد، إلا في حدود لا تزيد عن 30%.

2. إذا ما اضطر المفاوض العربي للثناء على ترامب، فيجب ألا يتضمن ذلك الثناء مواقف سياسية، لأنه ينتظر دائماً ممن يتعامل معه أن يثني عليه مهما فعل.

3. لن يتوانى ترامب عن ابتزاز المفاوض العربي سواء أكان الموضوع سياسياً أم مالياً وبمستوى من الابتزاز غير الأخلاقي.

4. كل من يخالفه الرأي من العرب سيعمل على تشويهه تماماً في كل تصريحاته ومواقفه.

5. إذا شعر ترامب بأنه خاسر تماماً فإنه يتراجع ولا يرى في ذلك أيّ حرج (مواقفه مع الصين، ومع كوريا الشمالية، ومع الداخل الأمريكي، ومع موضوع الناتو، بل ومع السعودية…إلخ).

2. توجهات ترامب الكبرى وانعكاساتها على المنطقة العربية:

إن الإنفاق العسكري الأمريكي الذي أعلن عنه ترامب بزيادة 54 مليار دولار لتصل إلى 639 مليار (مجموع إنفاق الدول السبع التالية لها في الترتيب)، يستدعي التساؤل عن كيفية التوفيق بين هذه الزيادة وبين وعود ترامب بإنعاش الاقتصاد الأمريكي. فالولايات المتحدة التي تمثل 4,3% من سكان العالم تنفق 37% من الإنفاق العسكري والدفاعي العالمي.

إن أهم رافعة لتحريك النمو الاقتصادي الأمريكي هو الصناعة العسكرية، ويكفي أن نتنبه إلى بعض المؤشرات:

أ‌. 68% من نفقات البحث العلمي في الولايات المتحدة تذهب للأغراض العسكرية.

ب‌. 46% من الحروب (الدولية والداخلية) في العالم تتم بأسلحة أمريكية يحملها طرفا الصراع، و43% من الحروب يستخدم فيها أحد أطراف الحرب سلاحاً أمريكياً.

ج. كان نصيب الولايات المتحدة من مبيعات السلاح 33% من مبيعات العالم خلال الفترة 2011–2015.

د. من الواضح أن المعاناة من فترات الركود الاقتصادي أو تعثّر النمو (1929، و1970، و1987، و2008) تبعتها زيادة في الإنفاق العسكري، لأن ذلك يسهم في امتصاص البطالة وتطوير التكنولوجيا وتعزيز التجارة العسكرية…إلخ.

الملاحظ أن مشروع ترامب تضمن تخفيضاً في النفقات الخارجية، والإسكان، والبيئة، والكثير من المشروعات الفيدرالية لتعويض بعض الإنفاق العسكري، وكل ذلك يخدم المجمع العسكري الصناعي. ويكفي النظر في خلفيات الشخصيات المهمة في إدارة ترامب لفهم ذلك. وإذا كانت الدول التي صنفها ترامب خلال حملته بأنها الأكثر عدوانية، وهي الإرهاب، والصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران تجعله يبرر زيادة الإنفاق، فإن المجمع العسكري الصناعي هو الذي يُحرّكه، ويكفي أن أحد ممثّلي المجمع قال ”جئنا به لخدمتنا”

الاتجاه الأعظم Mega-trend للسياسة الأمريكية (المستقبل البعيد):

من غير الممكن دراسة سياسة الولايات المتحدة في عهد ترامب بمعزل عن اتجاه أعظم للوضع الأمريكي الذي يميل تدريجياً للتراجع على المستوى العالمي، طبقاً لتقديرات عدد كبير من الخبراء في الدراسات المستقبلية أو غيرها (مثل بول كيندي، أو جون غالتنغ أو غيرهما).

بناء على ذلك فإن تحليل السياسة الأمريكية يجب أن يتم بناء على مديين، هما: المدى المباشر (فترة ترامب) والمدى البعيد (عشر سنوات أو أكثر). ولما كان المقام لا يسمح بتناول مؤشرات المدى البعيد، فإننا سنشير لبعضها على عَجَل، لرصد احتمالات السياسة الأمريكية على المدى القصير أو المباشر في المنطقة العربية لا سيّما في الموضوع الفلسطيني:

إن عالم الدراسات المستقبلية جون غالتنغ من أوائل من تتبعنا دراساتهم ونماذجهم خصوصاً أنه يجمع التخصص في علم الاجتماع وفي الرياضيات (يحمل درجة الدكتوراه في كل منهما)، وما يلفت انتباهنا هو سجله الحافل في مجال التنبؤ في الدراسات المستقبلية، ولعل نموذجه الأكثر مدعاة للانتباه هو نموذج رياضي صاغه في نظريته ”تزامن وتعاضد التناقضات” synchronizing and mutually reinforcing contradictions سنة 1980، ودرس فيها صعود وهبوط عشر امبراطوريات، وتوقع استناداً لنظريته أن ينهار الاتحاد السوفييتي في سنة 1990 (أي بعد عشر سنوات من نظريته، وهو ما وقع بالفعل).

وتتضح قدرة غالتنغ من خلال تنبؤاته الأخرى مثل: تنبؤه بوقوع الثورة الإيرانية، ووقوع اضطرابات ميدان تيانانمين الصيني 1989، ووقوع الأزمات الاقتصادية 1987 و2008 في الاقتصاد العالمي، ووقوع هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة. لكن دراسته الأكثر صلة بالولايات المتحدة هي الدراسة التي نشرها سنة 2009، والتي تنبأ فيها بمسألتين مهمتين هما:

1. أن الولايات المتحدة ستتراجع خلال 25 سنة، وبنى رؤيته استناداً لرصد 15 مؤشراً على التناقض في الجسد الأمريكي، من أهمها:

أ. التناقض الاقتصادي: فائض في الإنتاج، مع بطالة، ونفقات تلوث متزايدة.

ب. تناقض عسكري: خلافات مع الحلفاء في الناتو وخارجه حول من يتحمل نفقات الحروب (وهو ما يثيره ترامب حالياً).

ج. تناقض سياسي: التناقض بين أدوار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي مع الدور الأمريكي.

د. تناقض ثقافي: التناقض بين المكون المسيحي اليهودي والمكون الإسلامي والأقليات الأخرى (موضوع ملتهب الآن).

هـ. تناقض اجتماعي: تزايد الهوة بين الحلم الأمريكي لكل مواطن وبين تآكل الطبقة الوسطى (سيتعزز مع ترامب).

و. تناقضات دولية تظهر في التنافس الأمريكي مع الصين وروسيا (وهي واضحة الآن في مجالات عديدة).

2. العلامة الفارقة في هذا المسار يحددها غالتنغ في الحالة التي تبدأ فيها نخب الأطراف تتذمر من القيام بمهمات الحروب نيابة عن المركز. وهو ما يشير لبدء انهيار الإمبراطورية وهو ما يتضح في موقف دول الناتو حالياً من الدور الأمريكي (تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً منذ 1945 في 37 دولة وقتلت 20 مليون فرد). ويرى غالتنغ أن تراجع الولايات المتحدة في المسرح الدولي سيقود لتداعيات داخلية قد تصل لحد تفكك الولايات المتحدة ذاتها أو تتحول لدولة كونفيدرالية.

وبعد انتخاب ترامب رأى غالتنغ ان التراجع سيبدأ قبل ذلك بخمس سنوات (2020) وأن الفاشية ستكون المظهر المركزي للانهيار، ويرى أن مواقف ترامب من المهاجرين تكيد لرؤيته.

3. المستقبل القريب:

بناء على ذلك، نرى أن المستقبل القريب يحمل القسمات التالية:

‌أ. إن تغليب التطبيع العربي مع ”إسرائيل“ على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، ستكون أوفر حظاً من الاتجاه المعاكس.

‌ب. إن محاولة فكّ تحالفات بعض القوى الفلسطينية المسلحة أو اقتراب بعضها الآخر من محور المقاومة سيتعرض لمزيد من الضغوط.

ج. إن أنصار التسوية السلمية سيواجهون هم الأخرون قدراً كبيراً من الإحباط، مما يجعلهم في موقف أكثر ضعفاً.

وبناء على ما سبق، فإن على المقاومة الفلسطينية أن تتوخى أقصى درجات الحذر، وأن تحاول استثمار القوى الحزبية والشعبية العربية (بغض النظر عن كل ما يشوبها) لأنها ستكون الجدار الواقي لها. كما أن عليها أن لا تنخرط بأي شكل في النزاعات العربية الداخلية، وأن تحاول ترميم علاقاتها مع ”كل“ من يقدم لها يد العون.

أخيراً:

من الضروري عدم استبعاد أن شبح الاتهامات ولجان التحقيق الداخلية التي تلاحق ترامب في أكثر من جانب ”ربما“ تلقي بظلالها على وهج الصورة السابقة فيرتبك المشهد بكامله. إن إقالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئيس الأف.بي.آي (جيمس كومي) ومطالبة زعيم الديموقراطيين في الكونجرس بلجنة تحقيق مستقل، حول علاقات ترامب بروسيا، توحي أن الاضطراب ما زال يضرب الإدارة الأمريكية. ولا بدّ من التذكير بأن فضيحة ووترغيت بدأت في منتصف 1972 وانتهت بعد 26 شهراً عندما استقال نيكسون بعد شعوره بأن إدانته صارت مؤكدة… فهل سيتكرر المشهد؟ وهو ما قد يدفع ترامب لتأجيج أزمات خارجية لامتصاص آثار أزماته الداخلية وصورته المهزوزة، وقد يكون الشرق الأوسط هو الأكثر جذباً له لممارسة ذلك(1).

—————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”، والمقالة تنشر في إطار الشراكة العلمية بين المعهد المصري للدراسات ومركز الزيتونة للدراسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close